لما ذكر تعالى ذم المشركين, على ما حرموا من الحلال, ونسبوه إلى الله, وأبطل قولهم.
أمر تعالى رسوله, أن يبين للناس, ما حرمه الله عليهم, ليعلموا أن ما عدا ذلك حلال.
من نسب تحريمه إلى الله, فهو كاذب مبطل, لأن التحريم لا يكون, إلا من عند الله على لسان رسوله, وقد قال رسوله: " قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ " أي: محرما أكله, بقطع النظر عن تحريم الأنتفاع بغير الأكل وعدمه.
" إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً " والميتة: ما مات بغير ذكاة شرعية, فإن ذلك لا يحل.
كما قال تعالى: " حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ " .
" أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا " وهو: الدم الذي لا يخرج من الذبيحة عند ذكاتها, فإنه الدم الذي يضر احتباسه في البدن, فإذا خرج من البدن, زال الضرر بأكل اللحم.
ومفهوم هذا اللفظ, أن الدم الذي يبقى في اللحم والعروق بعد الذبح, أنه حلال طاهر.
" أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ " أي: فإن هذه الأشياء الثلاثة, رجس, أي: خبث نجس مضر, حرمه الله, لطفا بكم, ونزاهة لكم عن مقاربة الخبائث.
" أَوْ " إلا أن تكون الذبيحة مذبوحة لغير الله, من الأوثان, والآلهة التي يعبدها المشركون, فإن هذا, من الفسق الذي هو الخروج عن طاعة الله إلى معصيته.
" فَمَنِ اضْطُرَّ " أي: ومع هذا, فهذه الأشياء المحرمات, من اضطر إليها, أي: حملته الحاجة والضرورة إلى أكل شيء منها, بأن لم يكن عنده شيء, وخاف على نفسه التلف.
" غَيْرَ بَاغٍ " أي: مريد لأكلها, من غير اضطرار.
" وَلَا عَادٍ " أي: متجاوز للحد, بأن يأكل زيادة عن حاجته.
" فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " أي: فالله قد سامح من كان بهذه الحال.
واختلف العلماء رحمهم الله في هذا الحصر المذكور, في هذه الآية, مع أن ثم محرمات لم تذكر فيها, كالسباع, وكل ذي مخلب من الطير ونحو ذلك.
فقال بعضهم: إن هذه الآية, نازلة قبل, تحريم ما زاد, على ما ذكر فيها.
فلا ينافي هذا الحصر المذكور فيها, التحريم المتأخر بعد ذلك, لأنه لم يجده فيما أوحى إليه في ذلك الوقت.
وقال بعضهم: إن هذه الآية مشتملة على سائر المحرمات, بعضها صريحا, وبعضها يؤخذ من المعنى وعموم العلة.
فإن قوله تعالى في تعليل الميتة والدم ولحم الخنزير, أو الأخير منها فقط: " فَإِنَّهُ رِجْسٌ " وصف شامل لكل محرم.
فإن المحرمات كلها, رجس, وخبث, وهي من أخبث الخبائث المستقذرة, التي حرمها الله على عباده, صيانة لهم, وتكرمة عن مباشرة الخبيث الرجس.
ويؤخذ تفاصيل الرجس المحرم, من السنة, فإنها تفسر القرآن, وتبين المقصود منه.
فإذا كان الله تعالى, لم يحرم من المطاعم, إلا ما ذكر, والتحريم لا يكون مصدره, إلا شرع الله - دل ذلك على أن المشركين, الذين حرموا ما رزقهم الله, مفترون على الله, متقولون عليه ما لم يقل.
وفي الآية احتمال قوي, لولا أن الله ذكر فيها الخنزير.
وهو: أن السياق في نقض أقوال المشركين المتقدمة, في تحريمهم لما أحله الله, وخوضهم بذلك, بحسب ما سولت لهم أنفسهم, وذلك في بهيمة الأنعام خاصة.
وليس منها, محرم إلا ما ذكر في الآية: الميتة منها, وما أهل لغير الله به, وما سوى ذلك, فحلال.
ولعل مناسبة ذكر الخنزير هنا, على هذا الاحتمال, أن بعض الجهال, قد يدخله في بهيمة الأنعام, وأنه نوع من أنواع الغنم, كما قد يتوهمه جهلة النصارى وأشباههم, فينمونها, كما ينمون المواشي, ويستحلونها, ولا يفرقون بينها وبين الأنعام.
فهذا المحرم على هذه الأمة كلها, من باب التنزيه لهم والصيانة.