وأما البرهان الآخر, فإن إبراهيم قال طالبا من الله, أن يريه كيف يحيي الموتى: فقال الله له: " أَوَلَمْ تُؤْمِنْ " ليزيل الشبهة عن خليله.
" قَالَ " إبراهيم: " بَلَى " يا رب, قد آمنت أنك على كل شيء قدير, وأنك تحيي الموتى, وتجازي العباد.
ولكن أريد أن يطمئن قلبي, وأصل إلى درجة عين اليقين.
فأجاب الله دعوته, كرامة لا, ورحمة بالعباد.
" قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ " ولم يبين أي الطيور هي.
فالآية حاصلة بأي نوع منها, وهو المقصود.
" فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ " ضمهن, واذبحهن, ومزقهن.
" ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " .
ففعل ذلك, وفرق أجزاءهن على الجبال, التي حوله, ودعاهن بأسمائهن, فأقبلن إليه, أي: سريعات, لأن السعي: السرعة.
وليس المراد, أنهن جئن على قوائمهن, وإنما جئن طائرات, على أكمل ما يكون من الحياة.
وخص الطيور بذلك, لأن إحياءهن أكمل وأوضح من غيرهن.
وأيضا أزال في هذا كل وهم, ربما يعرض للنفوس المبطلة.
فجعلهن متعددات أربعة, ومزقهن جميعا, وجعلهن على رءوس الجبال ليكون ذلك ظاهرا علنا, يشاهد من قرب ومن بعد, وأنه نحاهن عنه كثيرا, لئلا يظن أن يكون عاملا حيلة من الحيل.
وأيضا أمره أن يدعوهن, فجئن مسرعات.
فصارت هذه الآية, أكبر برهان على كمال عزة الله وحكمته.
وفيه تنبيه على أن البعث فيه يظهر للعباد كمال عزة الله وحكمته وعظمته وسعة سلطانه, وتمام عدله وفضله.