ثم قال تعالى " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ " الآية أي يسألك - يا أيها الرسول - المؤمنون عن أحكام الخمر والميسر, وقد كانا مستعملين في الجاهلية وأول الإسلام, فكأنه وقع فيهما إشكال فلهذا سألوا عن حكمهما.
فأمر الله تعالى نبيه, أن يبين لهم منافعهما ومضارهما, ليكون ذلك مقدمة لتحريمهما, وتحتيم تركهما.
فأخبر أن إثمهما ومضارهما, وما يصدر عنهما, من ذهاب العقل والمال, والصد عن ذكر الله, وعن الصلاة, والعداوة, والبغضاء - أكبر مما يظنونه من نفعهما, من كسب المال بالتجارة بالخمر, وتحصيله بالقمار والطرب للنفوس, عند تعاطيهما.
وكان هذا البيان زاجرا للنفوس عنهما, لأن العاقل يرجح ما ترجحت مصلحته, ويجتنب ما ترجحت مضرته.
ولكن لما كانوا قد ألفوهما, وصعب التحتيم بتركهما أول وهلة, قدم هذه الآية, مقدمة للتحريم, الذي ذكره في قوله.
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ " .
إلى قوله " فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ " وهذا من لطفه ورحمته وحكمته.
ولهذا لما نزلت, قال عمر " 1: انتهينا انتهينا.
فأما الخمر, فهو كل مسكر خامر العقل وغطاه, من أي نوع كان.
وأما الميسر, فهو كل المغالبات التي يكون فيها عوض من الطرفين, من النرد, والشطرنج, وكل مغالبة قولية أو فعلية, تعوض بعوض, سوى مسابقة الخيل, والإبل, والسهام, فإنها مباحة, لكونها معينة على الجهاد, فرخص فيها الشارع.
وهذا سؤال عن مقدار ما ينفقونه من أموالهم.
فيسر الله لهم الأمر, وأمرهم أن ينفقوا العفو, وهو المتيسر من أموالهم, الذي لا تتعلق به حاجتهم وضرورتهم.
وهذا يرجع إلى كل أحد بحسبه, من غني وفقير ومتوسط, كل له قدرة على إنفاق ما عفا من ماله, ولو شق تمرة.
ولهذا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم, أن يأخذ العفو من أخلاق الناس وصدقاتهم, ولا يكلفهم ما يشق عليهم.
ذلك بأن الله تعالى لم يأمرنا بما أمرنا به حاجة منه لنا, أو تكليفا لنا بما يشق.
بل أمرنا بما فيه سعادتنا, وما يسهل علينا, وما به النفع لنا ولإخواننا فيستحق على ذلك, أتم الحمد.
ولما بين تعالى هذا البيان الشافي, وأطلع العباد على أسرار شرعه قال: " كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ " أي: الدالات على الحق, المحصلات للعلم النافع والفرقان.
" لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ " أي: لكي تستعملوا أفكاركم في أسرار شرعه, وتعرفوا أن أوامره, فيها مصالح الدنيا والآخرة.
وأيضا لكي تتفكروا في الدنيا وسرعة انقضائها, وفي الآخرة وبقائها, وأنها دار الجزاء فتعمروها.