لما ذكر فيما تقدم, أنه يبعث " فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا " ذكر ذلك أيضا هنا, وخص منهم هذا الرسول الكريم فقال: " وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ " أي: على أمتك تشهد عليهم بالخير والشر.
وهذا من كمال عدل الله تعالى, أن كل رسول يشهد على أمته, لأنه أعظم اطلاعا من غيره, على أعمال أمته, وأعدل, وأشفق من أن يشهد عليهم إلا بما يستحقون.
وهذا كقوله تعالى " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا " وقال تعالى: " فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ " .
وقوله " وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ " في أصول الدين وفروعه, وفي أحكام الدارين, وكل ما يحتاج إليه العباد, فهو مبين فيه, أتم تبيين, بألفاظ واضحة, ومعان جلية.
حتى إنه تعالى يثني فيه الأمور الكبار, التي يحتاج القلب لمرورها عليه كل وقت, وإعادتها في كل ساعة, ويعيدها, ويبديها بألفاظ مختلفة وأدلة متنوعة, لتستقر في القلوب فتثمر من الخير والبر, بحسب ثبوتها في القلب.
وحتى إنه تعالى يجمع في اللفظ القليل الواضح, معاني كثيرة, يكون اللفظ لها, كالقاعدة والأساس.
واعتبر هذا, بالآية التي بعد هذه الآية, وما فيها من أنواع الأوامر والنواهي, التي لا تحصى.
فلما كان هذا القرآن تبيانا لكل شيء, صار حجة اللة على العباد كلهم.
فانقطعت به حجة الظالمين, وانتفع به المسلمون, فصار هدى لهم, يهتدون به إلى أمر دينهم ودنياهم, ورحمة ينالون به كل خير في الدنيا والآخرة.
فالهدى, ما نالوا به, من علم نافع, وعمل صالح.
والرحمة, ما ترتب على ذلك, من ثواب الدنيا والآخرة, كصلاح القلب وبره, وطمأنينته.
وتمام العقل, الذي لا يتم إلا بتربيته على معانيه, التي هي أجل المعاني وأعلاها, والأعمال الكريمة والأخلاق الفاضلة, والرزق الواسع, والنصر على الأعداء بالقول والفعل, ونيل رضا الله تعالى, وكرامته العظيمة, التي لا يعلم ما فيها من النعيم المقيم, إلا الرب الرحيم.