ملخص الخطبة |
1- فضل الوالدين وحث الشارع على برهما والإحسان إليهما. 2- بعض صور العقوق والإساءة إليهما. 3- عقوبة من عق والديه وثواب من برهما. 4- حال بعض السلف في برهم لآبائهم. |
الخطبة الأولى |
|
أما بعد: أيها المؤمنون: فإن من أعظم الروابط بين الناس رابطة خصّها الشرع الحنيف بمزيد من الاهتمام والذكر بل لقد جعلها من فرائض الدين الكبرى فأمر بوصلها والإحسان إليها والقيام بحقها ورتب عليه أعظم الأجر وأزكاه. وفي المقابل حذر من المساس بهذه الرابطة الوثيقة والإخلال بها والاعتداء عليها حتى ولو بأدنى لفظ أو نظر. تلكم الرابطة هي ما يجمع كلاً منا بأصله الذي جعله الله تعالى سبباً لوجوده، رابطة الوالدين حيث إن شأنهما عظيم وحقهما كبير ولست في مقامي هذا أعلم جاهلاً بحقهما فالكل يعلم هذا الحق، ولكني أذكر نفسي أولاً وأذكركم ثانياً بهذا الحق العظيم الذي قرنه الله بحقه سبحانه في أكثر من آية في كتابه قال تعالى: وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا. قال الإمام ابن كثير رحمه الله: فلا تقل لهما أف أي لا تسمعهما قولاً سيئاً حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيئ ولا تنهرهما أي ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح كما قال عطاء بن أبي رباح في قوله: ولا تنهرهما أي لا تنفض يدك عليهما. ولما نهاه عن الفعل القبيح والقول القبيح أمره بالقول الحسن والفعل الحسن فقال: وقل لهما قولاً كريماً أي ليناً طيباً حسناً بتأدب وتوقير وتعظيم واخفض لهما جناح الذل والرحمة أي تواضع لهما بفعلك وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً أي في كبرهما وعند وفاتهما". عباد الله: لقد أكثر الله من ذكر شأن الوالدين وأوجب الإحسان إليهما لفضلهما وعظيم معروفهما على ولدهما قال تعالى: يسئلونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين. وقال تعالى: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وقال تعالى: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وقال تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير. وقال تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً. وإن كنت تظن يا عبد الله أن وقوع الوالدين في معصية يبيح لك نهرهما والإخلال بحقهما من الأدب ولين الجانب فقد أخطأت الجادة فلا أعظم جرماً من الشرك بالله والدعوة إليه ومع هذا يقول الله عز وجل معظماً لحقهما: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا. ولقد جاءت نصوص السنة متضافرة في الدلالة على هذا الحق العظيم فمن ذلك ما رواه عبد الله بن مسعود قال سألت رسول الله أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: ((الصلاة على وقتها قلت ثم أي؟ قال بر الوالدين قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله)) متفق عليه. وعن أبي هريرة قال: قال النبي : ((رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة)) أخرجه مسلم. ورغم أنف أي ذل ولصق بالرغام وهو التراب. وعن عبد الله بن عمرو قال أقبل رجل إلى النبي فقال أبايعك على الهجرة والجهاد ابتغي الأجر من الله تعالى فقال : ((فهل لك من والديك أحد حي؟ قال: نعم، بل كلاهما قال: فتبتغي الأجر من الله تعالى؟ قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)) متفق عليه. ومع كثرة النصوص والآثار الدالة على عظم شأن الوالدين ورفع مكانهما إلا أن بعض الناس قد أخلوا بهذا الجانب إخلالاً عظيماً فكم سمع الناس وقرؤوا وشاهدوا من مظاهر العقوق القولية والعملية ما يندى له الجبين ويتفطر له القلب. ويزداد الأمر شناعة إذا كان بعض أولئك المقصرين في حق الوالدين من أهل الصلاة والجمعة والجماعة. عباد الله: إن لعقوق الوالدين صوراً كثيرة منها إظهار العبوس عند مقابلة الوالدين بخلاف ما لو قابل أصحابه. وإنك لتعجب ممن يتكلف البشاشة والابتسامة مع الآخرين بينما يتثاقل في إظهار ذلك مع والديه. ومن صور العقوق أيضاً رفع الصوت عليهما أو مقاطعة كلامهما بزجرهما وفرض الرأي عليهما، وهذه الطباع مما يذمها العقلاء مع الناس فكيف إذا كان ذلك مع الوالدين. ومن صور العقوق أيضاً النظر إلى الوالدين شزراً وذلك بإحداد النظر إليهما وكأنه ينظر إلى أحد أبنائه لزجره أو كأنه ينظر إلى عدو. قال مجاهد "ما بر والديه من أحدّ النظر إليهما". ومن صور العقوق التأخر في قضاء حاجاتهما والتسويف بها إلى أن يسأم الوالدان من سؤاله بعد ذلك. ومن صور العقوق القيام بحق الزوجة والاعتناء به في مقابل عدم الاعتناء بحق الوالدين وعدم الاكتراث له بل وتضييعه، ولا حاجة بنا لذكر صور من العقوق بغيضة ليست من صفات المسلمين بل ولا من عادة عرب الجاهلية كضرب الوالدين أو لعنهما أو البصق عليهما أو رميهما في دور العجزة والتخلص منهما نعوذ بالله من الخزي والخذلان في الدنيا والآخرة. عن أبي بكرة قال: قال رسول الله : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالها: ثلاثاً، قلنا: بلى يا رسول الله قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين..)) الحديث متفق عليه. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله : ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه ومدمن الخمر والمنان)) أخرجه النسائي. وعقوبة العاق معجلة لصاحبها في الدنيا لقوله : ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)) أخرجه الإمام أحمد. وهذا مشاهد ظاهر لا يحتاج إلى دليل. وفي المقابل فبر الوالدين مفتاح كل خير ومغلاق من كل شر فهو من أعظم أسباب دخول الجنة والنجاة من النار ثم هو دين يدخر لك في ذريتك حين ترى ثمار برك بوالديك قد أينعت في ذريتك فكما تدين تدان. وبر الوالدين سبب في بسط الرزق وطول العمر وكذلك سبب في دفع المصائب كما جاء في خبر أصحاب الغار. كما أنه سبب في إجابة الدعاء كما جاء في صحيح مسلم في خبر أويس القرني أنه كان باراً بأمه. إلى غير ذلك مما هو مدخر للبار بوالديه من خيري الدنيا والآخرة. قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: "إني رأيت شبيبة من أهل زماننا لا يلتفتون إلى بر الوالدين ولا يرونه لازماً لزوم الدين، يرفعون أصواتهم على الآباء والأمهات وكأنهم لا يعتقدون طاعتهم من الواجبات ويقطعون الأرحام التي أمر الله بوصلها ونهى عن قطعها بأبلغ الزجر وربما قابلوها بالهجر والجهر. إلى أن قال رحمه الله:وليعلم البار بالوالدين أنه مهما بلغ في برهما لم يف بشكرهما. عن زرعة بن إبراهيم أن رجلاً جاء إلى عمر فقال إن لي أماً بلغ بها الكبر وإنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري مطية لها وأوضئها وأصرف وجهي عنها فهل أديت حقها قال لا. قال أليس قد حملتها على ظهري وحبست نفسي عليها. فقال عمر إنها كانت تصنع ذلك بك وهي تتمنى بقاءك وأنت تتمنى فراقها. وجاء رجل إلى ابن عمر فقال: (حملت أمي على رقبتي من خراسان حتى قضيت بها مناسك الحج أتراني جزيتها. قال: لا ولا طلقة من طلقاتها). إلى أن قال رحمه الله: وبرهما يكون بطاعتهما فيما يأمران به ما لم يكن بمحظور، وتقديم أمرهما على فعل النافلة والاجتناب لما نهيا عنه، والإنفاق عليهما،والتوخي لشهواتهما، والمبالغة في خدمتهما، واستعمال الأدب والهيبة لهما فلا يرفع الولد صوته ولا يحدق إليهما ولا يدعوهما باسمهما، ويمشي وراءهما ويصبر على ما يكره مما يصدر منهما" انتهى كلامه يرحمه الله. اللهم ارزقنا البر لوالدينا أحياءً وأمواتاً واجعلنا لهم قرة أعين وتوفنا وإياهم وأنت راضٍ عنا يا أرحم الراحمين. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
|
الخطبة الثانية |
أما بعد: أيها المؤمنون: لما كان بر الوالدين من القربات العظيمة تسابق إليها الأتقياء من عباد الله من الأنبياء والرسل وأتباعهم . هذا نوح عليه السلام يخص والديه بالدعاء بالمغفرة بقوله: رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات. وكذا حال عيسى ابن مريم عليه السلام حين قال عنه الله عز وجل: وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً. وكذا يحيى عليه السلام قال عنه الله عز وجل: وبراً بوالديه ولم يكن جباراً عصياً. وأما ما كان من شأن الخليل عليه السلام مع أبيه ودعوته إياه وتحببه له فأمر قد بلغ في البر غايته قال تعالى: واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً. وما جاء عن السلف في هذا الشأن كثير جداً فمن ذلك ما جاء عن أبي حنيفة رحمه الله في بره بأمه حيث كانت تأمره أن يذهب بها إلى حلقة عمر بن ذر حتى تسأله عما أشكل عليها مع أن ابنها فقيه زمانه، ومع ذلك قال أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة رأيت أبا حنيفة يحمل أمه على حمار إلى مجلس عمر بن ذر كراهية أن يرد على أمه أمرها. ومن ذلك ما جاء عن محمد بن بشر الأسلمي أنه قال: لم يكن أحد بالكوفة أبر بأمه من منصور بن المعتمر وأبي حنيفة، وكان منصور بن المعتمر يفلي رأس أمه. وأما حيوة بن شريح أحد الأئمة الأعلام فقد كان يقعد في حلقته يعلم الناس فتقول له أمه قم يا حيوة فألق الشعير للدجاج فيقوم ويترك التعليم. وقال محمد بن المنكدر: بات أخي عمر يصلي وبت أغمز رجل أمي وما أحب أن ليلتي بليلته. وكان حجر بن الأدبر يلمس فراش أمه بيده ويتقلب بظهره عليه ليتأكد من لينه وراحته ثم يضجعها عليه. وأما الإمام ابن عساكر محدث الشام فقد سئل عن سبب تأخر حضوره إلى بلاد أصبهان فقال: لم تأذن لي أمي. رحم الله هؤلاء الآئمة الأبرار ما أعظم شأنهم مع والديهم، وألحقنا بهم في دار كرامته إنه جواد كريم. عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين وانصر عبادك الموحدين.
|