ملخص الخطبة | |
1- دور الوازع الديني في المحافظة عل الأخلاق الفاضلة. 2- الجاهلية وصور من خلوها من الرحمة الإنسانية. 3- بعثة النبي لتمام مكارم الأخلاق. 4- رحمة رسول الله بأمته. 5- الراحمون يرحمهم الرحمن. 6- رحمة النبي | |
الخطبة الأولى | |
أما بعد: فيا عباد الله، قرة عين المؤمن وطمأنينة قلبه تبدو واضحة جلية في تقواه لربه؛ فإن تقوى الله هي أساس كل صلاح، وسلوان كل كفاح، أيها المسلمون، الأخلاق المثلى عماد الأمم وقوام الشعوب، وهي باقية ما بقيت أخلاقهم، هذه حقيقة مسلمة، لا ينازع فيها إلا مريض لم ينقه، أو مغرض لا يفقه، إن تدهور الأخلاق ناجم عن نقص الوازع الديني في النفوس، والوازع الديني الزاجر، والمنجي من النهابر[1]، الوازع الديني الذي يملك عنان النفس، ويسيطر عليها فيكبح جماحها، ويهتن دمعها، ويغسلها بالنقاخ[2]، الذي يبرد الفؤاد. وإن من أعظم الأخلاق المندوبة، والسجايا المطلوبة، خلق الرحمة والتراحم بين المسلمين، ولا غرو؛ إذ هو مفتاح القبول لدى القلوب، ولا جرم، أن فقدان الرحمة بين الناس، فقدان للحياة الهانئة، وإحلال للجاهلية الجهلاء، والأثرة العمياء. ولقد نالت الجاهلية من الرحمة أقسى منال، حتى وكأنما وأدتها في مهدها، ولقد كشف الله في كتابه عن فئام من الناس والأمم، ممن فقدوا الرحمة، وكأنما قدَّت قلوبهم من صخر صلد، تمثلت هذه الغلظة والقسوة، في أصحاب الأخدود، الذين أضرموا النيران، وخدوا الأخاديد في أفواه السكك، وجنبات الطريق، وكان ذلك حينما آمن الناس بما جاء به الغلام المؤمن، فكان من لم يرجع عن دينه يقحم في النار، فتنهش جسده نهشا، حتى لا يرى إلا فحمة أو رمادا، ولقد جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع في النار، فقال لها الغلام: (يا أماه، اصبري فإنك على الحق) [القصة رواها مسلم في صحيحه][3].
لقد كشف الله في كتابه عمن فقد الرحمة وانقض عليها، فلم يرعَ حق أُم ولا رضيع، ولم يدع صغيرا ولا كبيرا في عافية،
قال أبو رافع: أوتد فرعون لامرأته أربعة أوتاد، ثم جعل على ظهرها رحا عظيمة حتى ماتت لقد كشف الله في كتابه العزيز عن ممارسات شاذة، ممن فقدوا الرحمة أو أماتوها، وعن مكائد خبث، يصنعها يهود بني إسرائيل الذين هم أكثر البشر قسوة وفظاعة، وقلوبهم كالحجارة الصماء، بل هي أشد قسوة منها عباد الله، إن الله ـ جل وعلا ـ حينما بعث رسله جعل تمكين الأخلاق الفاضلة في النفوس أصلا من أصول رسالاتهم، وأساسا من أسس دعواتهم، وخاتم الأنبياء والمرسلين وقال لقد تجلت رحمة المصطفى أخرج مسلم في صحيحه أن رسول الله لقد تجلت رحمة المصطفى بأمته، حتى بلغت تعليم الجاهل، وتوجيه الغافل، ومناغاة العيال والصبيان، أقسمت بنت من بناته إن رحمة المصطفى وقال لقد تجلت رحمة المصطفى فيا لله العجب! حتى البهائم ألهمت أن الرسول أيها المسلمون، بتجلى خلق الرحمة في ذات المصطفى عباد الله، في طوايا الظلام، تدرس الأخلاق كما يدرس وشي الثوب، بلهَ ما كان في الصالحين المخلصين، لقد طغى طوفان المادة الجافة، فأغرق جسوم الرحمة إلا ما انملص منه، ولقد بدت نواعير الحياة عند البعض: (إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب، وإن لم تجهل يجهل عليك، وإن لم تتغدى بزيد تعشى بك) بل لقد صور العالم لدى البعض، أنه دنيا فسيحة، يحدها من الشرق الرغيف، ومن الغرب الدينار، ومن الشمال الجاه، ومن الجنوب الشيطان. لقد رجعت بعض النفوس منداة الجسم بعرق القسوة والغلظة، وإذا تندت الجسوم، وجب نزع المبلول، وإلا فهي العلة ما منها بد، وهي شاغلة النفوس. ما أشده مضضا ما تعانيه الأمة الإسلامية اليوم! إن أمرها ليذهب فرطا، وإن الغفلة قد بلغت من الناس مبلغ من يظن أنه حي في الحياة، فلا تجد إلا قلبا وصدرا وحرا، ولسانا ولقا ينصنص، إلا من عصم ربي، وقليل ما هم. لقد مضى عهد السلف الصالح، فسخفت الحياة من بعدهم، وصاروا ككتب قد انطوت على حقائقها، وختمت كما وضعت، لا يستطيع أحد أن يخرج للناس من حقيقتهم نصف حقيقة، ولا شبه حقيقة، ولا تزويرا على حقيقة، إنما هي لا غير، الحقائق كلها قد اكتنفوها. ولقد أثبتوا بتجلي الرحمة في قلوبهم، بأنه ليس في نفوسهم وطباعهم إلا الإخلاص، وإن كان حرمانا إلا المذق، وإلا المروءة، وإن كانت مشقة، وإلا محبة الصادقين وإن كانت ألما، وإلا الجد وإن كان عناء، وإلا القناعة وإن كانت فقرا. إن من النجاة الفكر في البلاء، والتنطس في الأمور، وإذا نبهت العزيمة تغلغل أثرها في البدن كله، فيكون علاجا يحدث به النشاط، ويرهف منه الطبع، وتجم عليه النفس، وإن هذا لهو الدواء إذا استشرى الداء، وهو النصر حين تخذل القوة. إن النفس ينبغي أن تَعْنَتَ بعد كل كمال فيما هو أكمل منه، وبعد المهاه فيما هو الإحسان، تستحث من كل هجعة راحة بفجر نصب جديد. ولو أدرك المسلم أن أول حق للمسلمين عليه، أن يحمل في نفسه معنى الناس، لا معنى نفسه، لعلم أن من فاق الناس بنفسه الكبيرة دون تميس، كانت عظمته في أن يفوق نفسه الكبيرة. إن الناس أحرار، متى حكمتهم معاني الرحمة والشفقة، والتواد والتعاطف، تحت ظل الإسلام الوارف، قال وبذلك كله يتصل ما بين العظيم والسوقة، وما بين الغني والفقير، اتصال الرحمة في كل شيء، أما ربط الرحمة والتراحم بالدينار والدرهم، في مقابل استبعاد تلك المعاني الحيوية، التي ينبغي أن تسود المجتمع، فهو المائج بالحياة بعضها في بعض، وهو الذي يقلب الموازين، ويجعل الصحيح والفاسد، في ملك الإنسان لا في عمله، وتكون المنفعة الذاتية، هي الآمر الناهي، فيرى كل إنسان كأنما ديناره ودرهمه، أكبر قيمة من دينار الآخر ودرهمه، فإذا أعطى نقص فغش، وإذا استنض زاد فسرق، ويتعامل الناس في التعاطف والتراحم على أساس من المعدة لا من الروح، وتكون يقظة التاجر من غفلة الشاري. فإذا عظمت الأمة الدينار والدرهم، فإنما تمزمز النفاق والطمع والقسوة، وإنما هيبة الإسلام في الرحمة بالنفس لا بالمال، وفي بذل الحياة، لا في المعك فيها، وفي أخلاق الروح، لا في أخلاق اليد، وفي وضع حدود الفضائل بين الناس، لا في وضع حدود الدراهم، وفي جعل أول الثروة الرحمة والشفقة، لا الذهب والفضة، هذا هو الإسلام الذي غلب الأمم؛ لأنه قبل ذلك غلب المطيطاء[14] والقسوة والجشع. والسلف الصالح خير من ترجم معاني الرحمة إبَّان عيشهم، فها هو الصديق أبو الصديقة، خليفة رسول الله ولقد بلغت الرحمة مجلاة أوج صورها، في الخليفة الفاروق (اعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحدا يظلم أحدا، أو يعتدي عليه، حتى أضع خده وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن للحق، وإني بعد شدتي تلك، أضع خدي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف)، فرحم الله عمر الفاروق ورضي عنه وعن الصحابة أجمعين. فاتقوا الله معاشر المسلمين، واعلموا أن المرء المسلم، مطالب بالرحمة والتراحم بما استطاع من تحلم وتصبر، وعليه أن يترفق أولا في أهله، وثانيا في رعيته وجيرانه ومواطنيه وموظفيه، فلا يكون عونا لزوجته على النشوز، ولا لأبنائه على العقوق، ولا لجيرانه على الإساءة، ولا لرعيته على التمرد، ولا للناس كافة على هجره ومباغضته. واعملوا بمثل قول المصطفى بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم... [1] النَّهابِر : المهالك ، وجهنم - أعاذنا الله – تعالى – منها . (القاموس ، مادة نهبر). [2] النُّقاخ: الماء البارد العذب الصافي والخالص ، (القاموس ، مادة نقخ). [3] صحيح مسلم ح (3005). [4] صحيح ، مسند أحمد (2/381) ، الأدب المفرد ح (273) ، مستدرك الحاكم (2/613) وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. ولفظه عندهم كلهم : ((....صالح الأخلاق)). [5] صحيح مسلم ح (202). [6] صحيح البخاري ح (1284) ، كما أخرجه مسلم ح (923). [7] صحيح ، سنن أبي داود ح (4941) ، سنن الترمذي ح (1924) وقال : حسن صحيح. [8] صحيح مسلم ح (2319). [9] المصدر السابق ح (1828). [10] تُدئبُه: يعني تُكدّه وتُتعبه . معالم السنن للخطابي (3/387). [11] صحيح ، سنن أبي داود ح (2549). [12] النفنف: الهواء. [13] صحيح مسلم ح (2586) ، وأخرجه أيضاً البخاري ح (6011). [14] المطيطاء: التبختر. [15] حسن ، سنن أبي داود ح (4843). [16] صحيح ، سنن أبي داود ح (4943) ولفظه : ((من لم يرحم صغيرنا ، ويعرف حق كبيرنا فليس منا)).
| |
الخطبة الثانية | |
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأتباعه وإخوانه. أما بعد: فيا أيها الناس، لقد تجلت رحمة الله ـ تعالى ـ بالبشرية في شهر الله المحرم، بأن نجى الله كليمه موسى من كيد فرعون وجنوده، فنبذه الله في اليم وهو مليم، وكان ذلك في اليوم العاشر من شهر الله المحرم، وهو يوم له فضيلة عظيمة، وحرمة قديمة، شرع المصطفى ففي الصحيحين عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قدم النبي وتأصيلا لقاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهي مخالفة اليهود والنصارى والمشركين، وقطعا لمادة التشبه بهم من كل طريق، عزم المصطفى فيستحب لكم أيها المسلمون صيام هذا اليوم، اقتداء بالنبي هذا، وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأفضل البشرية...
| |