ملخص الخطبة |
1- سمو الغاية يستلزم سمو البذل والثمن. 2- بذل النفس أعظم ثمن للجنة. 3- منزلة الشهيد وفضل الشهادة. 4- نماذج من شهداء الصحابة. 5- وللشهادة موكب في عصرنا هذا. 6- دعوة لنصرة إخواننا في فلسطين والتحذير من خذلانهم. 7- تضليل الإعلام الغربي وتشويهه لحقيقة ما يصفه إخواننا في فلسطين. |
الخطبة الأولى |
|
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى فإن تقوى الله خير زاد يصحب المرء في حياته الدنيا وفي سيره إلى الله والدار الآخرة. أيها المسلمون: إن بلوغ الأهداف الكبرى في الحياة يستلزم تضحيات كبرى مكافئة لها, ولا ريب أن سمو الأهداف وشرف المقاصد ونبل الغايات تقتضي سمو التضحيات وشرفها ورقي منازلها, وإذا كان أشرف التضحيات وأسماها هو ما كان ابتغاء رضوان الله تعالى ورجاء الحظوة بالنعيم المقيم في جنات النعيم, فإن الذود عن حياض هذا الدين والذب عن حوذته والمنافحة عن كتابه وشرعه ومقدساته يتبوأ أرفع درجات هذا الرضوان, ثم إن للتضحيات ألوانًا كثيرة ودروبًا متعددة, لكن تأتي في الذروة منها التضحية بالنفس, وبذل الروح رخيصة في سبيل الله لدحر أعداء الله ونصر دين الله, وذلك هو المراد لمصطلح الشهادة والاستشهاد. ولقد جهد رسول الله أحدهما: إفصاح بين وإيضاح جلي لما يعتمد في ذات نفسه الشريفة من حب عميق للشهادة حمله على التمني أن يرزق بها مراتٍ متعددة, فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله والمسلك الثاني في ترسيخ مفهوم الشهادة وإحيائه في القلوب وبعثه في النفوس ما ثبت عنه صلوات الله وسلامه عليه في صحيح السنة الشريفة من بيان محكم وإيضاح دقيق لفضل الشهادة ومنازل الشهداء في دار الكرامة عند مليك مقتدر, في الطليعة من ذلك بيان صفة حياة الشهداء عند ربهم, فعن مروان أنه قال: سألنا عبد الله عن هذه الآية: ومنها أن للشهيد عند ربه ست خصال جاءت مبينة في حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله ومنها أنه يخفف عنه مس الموت حتى إنه لا يجد من ألمه إلا كما يجد أحدنا من مس القرصة, وقد أخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم وابن حبان في صحيحه بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله ومن ألوان الكرامة أيضًا أن الملائكة تظله بأجنحتها؛ فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: "جيء بأبي إلى النبي ولهذا كله كان الشهيد وحده من أهل الجنة هو الذي يحب أن يرجع إلى الدنيا كما في حديث أنس رضي الله عنه أن النبي وليس عجبًا إذًا أن يجد هذا البيان النبوي الرفيع صدًا ضخمًا وأثرًا بالغًا وسلطانًا قويًا على نفوس تلك الصفوة المختارة, والصحبة التقية من الصحابة الكرام الأعلام, فتوطدت في نفوسهم أعمق معاني الشهادة, وترسخت في قلوبهم أسمى درجات الحب لها والولع بها والعمل الدؤوب لبلوغ مقامها, والتنعم برياضها. وفي صحيح السنة من أخبار هذا الشوق الظامئ, والحب الطهور الذي أكرم الله به هذه الكوكبة المؤمنة والطليعة الراشدة, ما لا يحده حد, ولا يستوعبه بيان, فمن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه أنه قال: انطق رسول الله فانظروا رحمكم الله كيف استبطأ رضي الله عنه الشهادة لتأخرها عنه دقائق معدودات, ولقد كانت كلمات بعضهم عند الشهادة صرخات مدوية زلزلت قلوب قاتليهم, وحملتهم على الدخول في دين الله, هذا حرام بن ملحان رضي الله عنه أحد القراء الذين بعث بهم رسول الله وكان بعضهم يأتيه من روح الجنة وريحها ما لا يملك معه إلا شدة الإقبال على القتال وعلى الاستبسال فيه, فهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يقول غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: يا رسول غبت عن أول قتال قاتلت المشركين لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع, فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء, يعني أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين, ثم تقدم, واستقبله سعد بن معارذ رضي الله عنه فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني لأجد ريحها دون أحد قال سعد: فما استطعت يا رسول ما صنع, قال أنس: ووجدنا به بضعًا وثمانين ما بين ضربة بالسيف أو طعنة برمح, أو رمية بسهم, وجيء به وقد مُثل به فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه أخرجه البخاري ومسلم. ثم استمعوا رعاكم الله إلى خبر هذا الأعرابي المسلم كيف صدق الله في طلب الشهادة فصدقه الله وبلّغه ما أراد, فقد أخرج النسائي في سننه بإسناد صحيح عن شداد بن الهاد رضي الله عنه أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي وأي شهادة يا عباد الله أرفع وأسمى وأصدق وأخلص من هذه الشهادة الكريمة العظيمة, وكم في حياة السلف أيها الأخوة من صور هذا الحب العاطر والشوق الظامئ إلى الظفر بمقام الشهادة, ياله من مقام, وهكذا مضت على بذل الشهادة المضئ كواكب متتابعة وقوافل متعاقبة من الشهداء الأبرار الذين بدمائهم الزكية أروع صحائف التضحية والبذل وأرفع أمثلة العطاء والجود, إنه الجود بالنفس, وهو أقصى غاية الجود, فهاهم شهداء المسلمين في البوسنة والهرسك, وفي كوسوفا, وفي الشيشان, ومن قبل في أفغانستان, وفي غيرها من ديار الإسلام, وها نحن اليوم نرى بأم أعيننا, نرى ويرى العالم كله معنا هذه الصور العظيمة المتجددة من صور الانتفاضة والشهادة ـ إن شاء الله ـ على أرض بيت المقدس, وعلى كل أرض فلسطين المسلمة الصابرة, إننا في حاجة يا عباد الله إلى مواقف وصور تحيي في ضمير الأمة معاني الشهادة وتبعث في روحها حب الاستشهاد من جديد سيرًا على درب السلف رضوان الله عليهم, ذلك الدرب الذي سلكه من قبلهم رسول الله فيا أيها المسلمون في كل أرجاء الدنيا: النصرة النصرة, انصروا إخوانكم في بلاد الأقصى؛ فإن نصرهم فرض متعين عليكم فلا تخذلوهم, واسمعوا لقول نبيكم صلوات الله وسلامه عليه إذ يقول: ((ما من مسلم يخذل امرئً مسلمًا في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته, وما من أحد ينصر مسلمًا في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته))حد ينصري أخرجه الإمام أحمد في مسنده, وأبو داود في سننه بإسناد حسن. ويا أهل العلم, وقادة الفكر والرأي في الأمة, جردوا أقلامكم وابسطوا ألسنتكم في إحياء معنى الشهادة والاستشهاد وتعميق مفهومها في النفوس, وترسيخه في سويداء القلوب بمختلف الوسائل المقروءة والمسموعة والمرئية, وإنما رأيناه في هذه البلاد المباركة, بلاد الحرمين الشريفين حرسها الله من صور البذل السخي, والعطاء المتدفق المنبعث من مختلف المستويات, قادة وعلماء ومسئولين, رجالاً ونساءًا, شبابًا وشيوخًا وأطفال, كل ذلك مما يفرح به المؤمنون, وَيشْرَق به الكافرون الحاقدون من اليهود الطاغين, ومن شايعهم وأيدهم وناصرهم وناضل دونهم من المستكبرين المتجبرين, وهكذا ما وقع في بلاد المسلمين قاطبة من صور النصرة والمساندة لإخوانهم في فلسطين فجزى الله خيرًا كل من بذل من نفسه وأو ماله لله ولنصر إخوانه في الله, ونسأله سبحانه أن تواصل هذه المسيرة المباركة طريقها في البذل والعطاء والفداء, فإلى المزيد, إلى المزيد, فالبدار البدار إلى جنة عرضها السموات والأرض, أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
|
الخطبة الثانية |
الحمد لله الذي جعل الشهادة بابًا من أعظم أبواب الجنة, دار السلام, أحمده سبحانه, حث الأمة على المضي في درب الشهادة في سبيل الملك العلام, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله, خير من ضرب الأمثال في حب الشهادة, وفي بذل التضحيات العظام, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأئمة الأبرار الأعلام وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فيا عباد الله: لقد دأبت بعض أجهزة الإعلام الأجنبية على تسمية ما يصدر من إخواننا المسلمين الصابرين في بيت المقدس, وفي كل فلسطين من تصدٍ لعدوان اليهود ـ لعنهم الله ـ ومن تحدٍ لطغيانهم وبغيهم وتجبرهم, دأبت هذه الأجهزة الإعلامية الأجنبية على تسمية هذا التحدي والإقبال والاستبسال وعلى وصفه بأنه أعمال عنف, وابتنت عليه الدعوة إلى وقف أعمال العنف وإلى الاستماتة في محاولة إيقافها, وهذا يا عباد الله من تحريف الكلم عن مواضعه, وهؤلاء اليهود المجرمون هم أصحاب هذه الصفة المقبوحة التي سجلها عليهم كتاب الله, وهو أيضًا من تسمية الأشياء بغير أسمائها خداعًا, وتضليلاً منهم ومن أشياعهم من قوى الاستكبار والطغيان, فإن ما يقوم به إخوانكم المسلمون في فلسطين لا يسمى أعمال عنف ـ كما زعموا ـ بل انتفاضة مباركة لصد العدوان وقمع الباطل ودحر الطغيان, وهذا حق مشروع في جميع الشرائع الإلهية وفي كل الأعراف والقوانين الدولية, لا يملك إنكاره ولا دفعه إلا جاهل مكابر, أو مغرض خبيث, فكيف أيها المسلمون تسمى هذه الانتفاضة المباركة أعمال عنف, وإذا سلمنا جدلاً بأنها أعمال عنف, فمن هو الذي أشعل نارها وأذكى أوارها وألهب جذوتها أول مرة؟ ألم يكن أحد زعمائهم, ألم يكن هذا المشعل المفسد هو أحد زعمائهم حين اقتحم بجنوده حرمة المسجد الأقصى المبارك, وحين أطلق جنوده النار على الركع السجود, إن الحق بيِّن, وكيف يساوى بين الجلاد والضحية, وبين الظالم والمظلوم وبين المعتدي والمعتدى عليه, إن الحق يا عباد الله بيِّن, والحقيقة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار, لكنه الخداع والتضليل, والمغالطة والمكابرة ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله محمد بن عبد الله فقد أُمرتم بذلك في كتاب الله حيث قال سبحانه: عباد الله: |